أرواح المبدعين تزورنا ! .. اعترافات مبهرة لأحمد الفقيه

روح إدريس تلقن الفقيه مشاهد “أهل الكهف”!
أم كلثوم تفيق من الغيبوبة لاستقبال الشيخ زكريا ..
محفوظ يجالس مريديه بقصر النيل .. والحكيم يزور النقاش على سرير الموت
الكعبازي ربان ببحر السماء .. وطيف امرأة يسبق عريبي للقبر
غيمة تظلل إبراهيم الفقي .. وشهداء ليبيا يشكرون مصطفى حسين
فدوى طوقان تقود درويش لسماء فلسطين .. والعقاد يرقص باسطنبول!
الفيتوري يتحدى الجنرال نميري.. وعبدالصبور سعيد بموته

حقا من عاش مبدعا فقد مات مبتسما .. هؤلاء من تُخلدهم بصماتهم فيحيون أكثر من حياة.. يبقى اسمهم تردده الأجيال.. هل تصدق أن يزورك طيف أحدهم أو تلقاه مبتسما أو مودعا أو ربما مندمجا فيما كان يفعله بدنياه !

بهذه المشاهد تستقبل “قصص من عالم العرفان” أحدث إصدارات الكاتب أحمد الفقيه عن المكتب المصري الحديث في 118 صفحة .

يكتشف الفقيه أن العالم ليس فقط ما نرى ونسمع ونعاين بالحواس الخمس، وإنما أبعد وأكثر ثراء وعمقا، وفي خبايا أنفسنا وأرواحنا هناك عوالم خفية ندركها بحواس جديدة ، ومن هنا فقد قرر الكاتب استدعاء من أحبهم عبر 25 قصة قصيرة كتبها بمداد الروح .

“صدق أو لا تصدق ” فمساحة الخيال مدهشة بالمجموعة، وان استند الفقيه لواقع تؤكده الدراسات النفسية والحالات العرفانية التي يعيشها المتصوفة والصالحون، وقد درج الكاتب بعائلة تنتمي لهذا النوع من الفيض والرؤيا .

تعيد القصص قيمة العرفان ببعده الصوفي وتلاقي الأرواح بعد الممات، لكنه أيضا يبحث بقيمة العرفان بجميل أساتذة الأدب والإبداع ، سواء العرب أو الليبيين ممن رسمهم بريشة معبرة ومدهشة.

ويمتاز أدب أحمد الفقيه بالرقي والتطور والعمق وقد ترجمت كتاباته للغات عدة وأشاد بها كبار النقاد وأولهم يوسف إدريس الذي وصفه بالعبقرية مبكرا، وعادة ما ترى بأدبه صورة للإنسان العربي بمرآة تتسع لتشمل الإنسانية، وهو يمزج التراث بالمعاصرة في لغته المدهشة ، أما خياله فهو خصب رحيب ، وقد عمد بهذه المجموعة لحيلة استدعاء أرواح من رحلوا وجعل لقاءهم به واقعا تراه بالعين ويراه بالقلب.

إدريس يعاتبني!

في شهادته يؤكد يوسف إدريس بمقاله المنشور بمجلة “آخر ساعة” 1966 أن قصص الفقيه تشمل الإنسان في كل زمان ومكان، وهي تدفع بالقصة العربية القصيرة للخروج من نطاق الإقليم لرحابة العالم، مشيدا باحتشاد القيم الفنية بمخيلة هذا الكاتب الليبي الشاب واستمداداته المتوالية من التراث الليبي ، البدوي والحضري، وسعيه الدؤوب لخلق قصة ليبية حديثة شكلا ومضمونا .

شاهد الفقيه يوسف إدريس يأتيه يوما في أبهة وبهاء معاتبا إياه لتوقفه عن الكتابة بعد رحيله ولمدة عام، كان هذا حقيقيا، وبالفعل انهمك الكاتب في استجابة لنداء إدريس من عالم الغيب بكتابة مسرحية أوحى له شخصيا بها عن “أهل الكهف” لكن بثوب جديد يربطها بمذبحة القلعة ويتماس مع هموم العرب المعاصرة باسقاطات جديدة، ومن شدة تأثر الكاتب بأسلوب ومدرسة يوسف إدريس في إبداع هذا النص، وإيحاءات المشاهد المسرحية الكاملة التي واتته بصوت إدريس، التبس عليه الأمر، هل هو حقا من كتبه أم إدريس!!

محفوظ .. في قصر النيل

لعبقري السرد الروائي كما يسميه أحمد الفقيه قصتان مدهشتان بالمجموعة؛ في الأولى يتأمل ذاكرة محفوظ الحديدة والذي التقاه دقيقة واحدة وهو بعد لا يزال أديبا مغمورا، ثم تذكره بعدها بثلاثين عاما وناداه باسمه يا “أحمد” ، وقد كانت تلك الذاكرة سببا في خروج المخرج سمير الجاعوني ذات مرة من شبح الإفلاس وإجباره على بيع بيته الوحيد، لان محفوظ شهد بزيارته لوالده قديما بهذا المكان!

وفي القصة الثانية يدخل الفقيه كبسولة الزمن التي تحدث عنها أطباء نفسيون حين يشتد الحنين بإنسان ما فيجد مشهدا مكتملا من ذلك الماضي أو مع هؤلاء الأحبة واقعا أمامه، ويجد نفسه أحيانا يحتل موقعا من المشهد ويشارك فيه بفاعلية.

وبينما كان الفقيه جالسا بكازينو قصر النيل الذي اعتاد نجيب محفوظ ارتياده مطلع التسعينات، فقد هاله أن يرى تحلق تلاميذ الأديب حوله، واقعا معاينا بالبصر وليس خيالا أو سرابا، كان منهم أدباء مصريون بارزون وفلسطينيون أيضا كإيميل حبيبي ، والعجيب أن حبكة الخيال وصلت لاستعادة شكل قصر النيل في ذلك الزمان ، فلا الفنادق الحديثة تأسست ولا مبنى وزارة الخارجية موجود، وبعد لحظات طويلة عاد المشهد لطبيعته وغادر الفقيه الكازينو مذهولا ومستمتعا بصحبة الأديب الخالد.

أم كلثوم .. دندنة أخيرة

بينما كان جسدها ممدا ، وعقلها في غيبوبة شبه تامة، يحيط بها الأحباء لتلقينها الشهادة وينظرون بأسف للحظات احتضار سيدة الغناء العربي، والقصر الجمهوري ينتظر لإعلان نبأ الوفاة، إذا بالحضور يفاجأون بأم كلثوم تنهض قليلا من غفوتها وتدندن كلمات لا يعرفونها من أغنية “الهوى غلاب” وهي كلمات بنفس القافية، وتخاطب وهي تتدرب على أدائها الشيخ زكريا أحمد والشاعر بيرم التونسي، وقد سبقاها في وداع الحياة بأكثر من عشر سنوات!

دهشة بالغة أصابت الجميع وهم يشاهدون السيدة أم كلثوم تأمر بأن يحضروا لها الشيخ زكريا، ثم تعود لغيبوبتها وتتسلل البرودة لأطرافها .

أدباء ليبيا .. أكثر من حياة

يحتل المبدعون الليبيون ممن رافقهم الفقيه بحياته نسبة كبيرة من قصص المجموعة، ومن هؤلاء نقرأ عن البشير كاجيجي وكان أديبا وسفيرا لبلاده ببغداد، وقد أصر خلال مرافقته لأحد زملائه برحلة علاج على زيارة القاهرة لمدة 3 أيام، فمات بنهايتها ليكون وداعه لقبر أمه ورفاقه والبلد الذي أحبه آخر ما يقوم به بالدنيا .

ولا ينسى الفقيه مشهدا قد مهد له نبأ رحيل الأستاذ فؤاد الكعبازي مترجم القرآن للإيطالية ومقارن الأديان الداعي للحوار وصاحب التصميمات المبدعة المستقاة من التراث الليبي، وقد شاهد الفقيه الكعبازي – قبل أن يعلم برحيله بدقائق- وهو يقود يختا سماويا عظيما يستقله الأدباء الكبار العرب والمفكرون وهو يتشكل من سحب تبحر في الزرقة العظيمة الصافية، شاهدهم جميعا يلوحون له بالتحية وهو يرقبهم من نافذة أحد الفنادق ببيروت!

فؤاد الكعبازي

ولخليفة حسين قصة عجيبة مع نداءات فراديس السماء كما يسميها الكاتب؛ فقد أبدع روايته “الجريمة” عن جرائم المستعمر الإيطالي الوحشية بحق الليبيين العزل، إبان الحرب العالمية الثانية وفي حضرة الجزار جراتسياني قبل إعدام الزعيم عمر المختار، وصور الأديب بإحساس صادق معاناة الليبيين بمعتقل العقيلة الصحراوي والذي أفضى لموت معظمهم بداخله، وذات يوم رأى الأديب شيخا مهيبا يمتطي غيمة يشكره عن صنيعته ويورد له أسماء بعينها يسميهم خالاته واللاتي قضين نحبهن بهذا السجن القاسي ، وبشره بقرب لحاقه بهن في جنة النعيم، وقد صدقت بشارته وعمد الأديب لاستغلال ما بقي من حياته للبحث بجذور العائلة ليكتشف بالفعل أن فرعا منها قد أبيد عن بكرة أبيه على يد المستعمرين، وأنه بلا ترتيب قد أورد قصصهن وبعض أسمائهن بروايته الخالدة!

خليفة حسين

وتقرأ بالمجموعة عن كتابة أحد مشايخ الطرق الصوفية لمذكرات الشاعر علي الرقيعي بإملاء منه رغم رحيل الأخير بحادث مروع، كما تقرأ عن مكالمة هاتفية من الكاتب يشير الهاشمي يطمئن صديقه الفقيه بالعودة للكتابة الأدبية، وإذا بالكاتب يفاجأ بخبر رحيله في نفس اليوم! أو أن يرى صديقه الراحل عبدالله القويري بمقهى “الفجر” الذي اعتادا الجلوس فيه بنفس هيئته .

تحدث كثيرون عن مشاهدتهم للفنان كاظم نديم بشوارع طرابلس بعد رحيله ، وكان من طليعة الفنانين الذين كتبوا بتحرير الشعوب وحب الوطن بليبيا بعد الاستقلال. ومن الفنانين يستدعي الفقيه كرامات علي عريبي والمرأة التي ظهر طيفها الشفاف تطلب منه ذكر الله والتشهد وتنبأ بعد رؤيا بمنامه بأنه سيدفن بقبر ابن هانيء العظيم وتحت شجرة ليمون، وقد كان!

أما الفنان علي القبلاوي فيعيد العقل الباطن للكاتب له ريادته المسرحية رغم سوء المناخات المتاحة بليبيا بأن يجسد مسرحية عطيل في جنة خلده بصحبة الشخصية الحقيقية “عطاء الله” من أصول إيطالية ومؤلفها شكسبير وملوك وسلاطين العالم ومبدعو المسرح والشعر الذين التهبت أيديهم بالتصفيق الحاد .

علي ربيعي

في المجموعة نرى الكاتب إبراهيم الفقي يحضر طيفه بفندق الصفوة، وكان من البارزين بالضمان الاجتماعي للمحتاجين بليبيا من سجناء ومعاقين وأيتام ، كان حضوره بهيئته سببا كافيا لاستقرار غيمة بالسماء تقي الكاتبين من قيظ الشمس الحارقة، وقد شاهد طيورا خضر تصحبها ، وهذا ما جرى أيضا مع الشاعر علي صدقي نصير العمال والمستضعفين الذي واجه فساد الكبار، حيث شاهد الفقيه طيفه على قبره ينشد “يحيا الحب”

رشاد الهوني أحد أباء الصحافة والأدب بليبيا اختار الرحيل بعدما لقيه من تغير الأصدقاء القدامى ببلاده وقد عاد إليهم بحنين جارف بعد غياب طويل، فلم يجد غير النكران وممن مد لهم مد العون وانتشلهم في الماضي، وحين سألوه هل يعود للندن ، أجاب بأن إقامة أخرى تنتظره ، ومرت أيام قليلة حتى ذاع خبر وفاته بسكتة قلبية.

ومع عالم الأطياف، فقد زار محمد الزوي الأديب في ليلة صيفية، بعد علمه بوفاته، وكان قد شاركه حياة اللهو ببريطانيا، ولما عادا أسسا تجربة صحفية وأدبية وانتهت رحلته من الشك لليقين والذهاب للحج أكثر من مرة والكتابة عن روحانيات وفيوضات معرفة الله .

ويعيد الفقيه تسليط الضوء على أحد مؤسسي القصة الليبية الحديثة ، يوسف هامان، الذي ارتضى مهنة بسيطة يكتب بها نشرات تحذيرية للمزارعين من مخاطر الديدان، فيما يشرف مساء على الكتابة الإبداعية والنقد، فكان مثالا لطاقات كثيرة مهدرة بعالمنا.

أما علي شلش فقد زار طيفه مؤلف هذا الكتاب بلندن مودعا وسأل عنه فطمأنه الجميع، ثم علموا أنه قد مات بالفعل خلال مشاركته بمؤتمر بالقاهرة عن الأدب الإفريقي.

طيف عبدالصبور .. وشبيه العقاد

جلس الفقيه ذات يوم مع طيف صلاح عبدالصبور صاحب هذه الكلمات، والذي قرأ نبأ نعيه بلا دهشة وكان في حياته قد تمنى الموت قائلا : “وإن أتاني الموت فلأمت محدثاً أو سامعاً، أو فلأمت أصابعي في شعرها الجعد الثقيل الرائحة، في ركني الليلي، في المقهى الذي تضيئه مصابيح حزينة”

وقد شاهد الفقيه شبيها لعملاق الفكر العربي عباس العقاد باسطنبول ، يرقص الدبكة، كان ينحدر من أصوله الأسوانية ذاتها، ويشبهه بالصوت والملامح واتقان اللغة الفصيحة والاعتداد الشديد بالنفس، ولكنه لم يكن غير شبيه تجسد في ثوب آخر !
وتذكر الكاتب حينما كان يخشى من التردد على صالون العملاق الفذ، والذي التف حوله أساطين الفكر ولا يزال تلامذته ينبرون دفاعا عنه وعن فكره.

الفيتوري .. ثلاثة أوجه

كالعادة، وقبل أن يعلم برحيل الفيتوري، كان الفقيه قد دخل بتجربة روحية جديدة لاستدعائه، وقد التقاه هذه المرة، أو بالأحرى التقى نسخته القديمة، في فندق بطرابلس، يخط بسبابته أبياته الشعرية التي ترد إليه قبل تدوينها، ويستعد للقاء كتيبة فدائية ضد أعداء العرب، يتحدى النميري الذي فرح بخبر موته قائلا : الشعراء يا جنرال لا يموتون .

على الجانب الآخر يتصل الفقيه تليفونيا بالفيتوري المريض فيجده هزيلا يخرج صوته بصعوبة من المستشفى بالمغرب حيث منفاه الأخير، وبينما هو يجلس مع الشبيه ويحادث الأصل إذا به يقرأ نعي الفيتوري بصفحة “الأهرام”!

إنه الفيتوري الذي استدعى الموت فقال :

شحبت روحي، صارت شفقاً
شعت غيماً وسنا
جزر غرقى في قاع البحر….
حريق في الزمن الضائع
قنديل زيتي مبهوت
في أقصى بيت، في بيروت
أتألق حينا ثم أرنق ثم أموت

درويش يتنبأ بموته

في حديث صحفي على هامش مؤتمر احتفالي بالمبدعين العرب بتونس، قال الشاعر محمود درويش لصحفية بريطانية أنه لن يعمر لأكثر من 67 عاما، وكأن حدسه قد أخبره بذلك، وأنه يكره الشيخوخة ، وقد زاره بالمشفى قبل الرحيل طيف الشاعران توفيق زياد ورشاد حسين وكانا قد قضيا نحبهما بحادثين ، واستقلوا جميعا سيارة تقودها فدوى طوقان رائدة الشعر الفلسطيني الحديث، وقد رآها تصعد بسماء فلسطين الزرقاء بدلا من السير بطريق رام الله !

كان درويش هو من قال :
أيها الموت انتظرني خارج الأرض،
انتظرني في بلادك،
ريثما أنهي حديثا عابرا
مع ما تبقى من حياتي

النقاش يخاطب المعداوي

في غيبوبته قبل الموت، أفاق الناقد الفذ رجاء النقاش، كما يروي الفقيه، ووجدوه يخاطب نقادا قد رحلوا كأنور المعداوي وعبدالقادر القط وفاروق خورشيد . وقد كان أحمد الفقيه شاهدا على تلك الواقعة بنفسه، والتي ذكر منها كلام النقاش : “أهو توفيق بك وصل .. اتفضل يا أستاذ” وقد ذهل وهو يشعر بأطياف توفيق الحكيم والنقاد في جلسة مع هذا الرجل قبل الرحيل .

يقول الفقيه : عالم الأحلام يفوق الواقع، وبه جوانب قد لا يفهمها العقل البشري وتستعصي على التأويل، وما فهمته من أحلامي أنها إفراز طبيعي لحالة الحزن التي سيطرت على عقلي وقلبي، فكانت الأحلام علاجا فعالا قدمه العقل الباطن لمداواة الروح، وكان يرى الأدباء بمواكب عظيمة تنتمي لعالم الفردوس لا الدنيا، تتبادل التهاني والأحاديث المرتبطة بما أبدعوه في دنياهم، وأنهم يستقبلون الوافد الجديد والذي يتلفظ بكلمات قبل الرحيل قد تبدو غريبة ولكنها مفهومة لمن يدركون أسرار عالم الروح .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *