تقارير وتحقيقات
صاحب «حدائق الرئيس» يكشف خمسين عاما من القهر والحرب
الرجل الذى نبش ” حدائق الرئيس ” ليكشف عن ضحاياه و مقابره الجماعية ، ناثرا ” الفتيت المبعثر ” من بقايا الحروب التى عانت العراق من ويلاتها ، وباسطا كفيه لجمع شتات مواطنيه ..
هو الكاتب و المترجم العراقى محسن الرملى الذى خرج من العراق مضطهدا بعد إعدام أخيه الكاتب حسن مطلك لمعارضته نظام صدام حسين ، ليبدأ فى رحلة البحث عن الحرية و الإنسان و التصالح مع الهوية ، و التي نعيشها معه في السطور التالية..
لماذا اضطررت لترك وطنك؟
خرجت من العراق عام 1993 بعد أن أنهيت الخدمة العسكرية الإلزامية التى دامت 3 سنوات و كنت فيها قائد دبابة . وقد صار من الصعب البقاء بالعراق بعد إعدام أخى الكاتب حسن مطلك على يد نظام صدام حسين بتهمة قلب نظام الحكم ، و إغلاق كل الأبواب أمامى من فرص العمل و النشر .
كنت أعانى من اختناقات عديدة وسط الديكتاتورية و الحصار، و لم أكن أقبل أن أنشر فى صحيفة نظام قتل أخى ، فخرجت من العراق بحثا عن الحرية لا شيئا آخر .
سافرت إلى الأردن لمدة عامين و عملت فى كل المهن ، فعملت فى الحدائق و قطف الزيتون و البرتقال ، كما عملت فى المطاعم و البناء ، و مع ذلك ظللت أكتب فى الصحافة ، و بعدها سافرت إلى أسبانيا لأدرس فى جامعة مدريد دون منحة ، و لم يكن معى سوى مائتى دولار .
بدأت تعلم الإسبانية من جديد و العمل ليل نهار لتغطية مصاريف الدراسة ، واجهتنى الكثير من الصعوبات ، و مع ذلك أنهيت دراستى و حصلت على الدكتوراة فى عام 2003 ، و بعدها بدأت الأمور فى التحسن بعد عملى فى جامعة “سانت لويس” الأمريكية في مدريد ، و مازلت أحيا و أدرس فى مدريد بعد 22 عاما من رحيلى عن العراق .
رغم المرارة التي تجرعتها بالوطن .. لكننا نراه حاضرا بقوة فى كتاباتك !
بالفعل فعلى الرغم من خروجى من العراق و لكنى لم أستطع أن أخرج عنه فى كتاباتى ، فالعراق يسكننى ، و لكنى أخشى أن يمل قرائى لأن أغلبهم ليسوا عراقيين ، بل عرب و أجانب و أكثرهم من أمريكا اللاتينية ، فأخشى أن يحدث معى ما حدث مع كارلوس فوينتوس عندما مل قراؤه لأن كل رواياته عن المكسيك .
و ” حدائق الرئيس ” روايتى الأخيرة ضخمة تتناول العراق على مدى الخمسين عاما الأخيرة و حتى سقوط بغداد فى يد أمريكا ، و كأنى أردت أن أقول كل شئ حتى انتهى من استحواذ العراق على .
لكني أيضا أكتب فى موضوعات أخرى، و خاصة الروايات الخيالية ، فنحن فى العالم العربى نعانى من أن معظم كتابتنا واقعية ، و العالم ينتظر منا الخيال الجديد ، فمازالت أشهر الأعمال العربية فى الغرب “ألف ليلة و ليلة” ، أما الواقع فتمتلئ به الفضائيات .
حدثنا عن أجواء روايتك الأحدث ، والتي تختصر سيرة العراق؟
فى الرواية تناولت العراق منذ عام 1948 أو حرب فلسطين التى شارك فيها أبى و آخرين ، و دخول العراق الكويت ، و الحرب العراقية الإيرانية ، و الحرب الأهلية بالعراق ” حرب الشمال ” الكردى ، ثم ما عايشته العراق من حصار و ديكتاتورية و مقابر جماعية ، إلى الحرب الأخيرة مع أمريكا و الظروف التى أحاطت بها ،و سقوط بغداد ، أما بعد السقوط فيحتاج لعمل آخر .
كان اهتمامى بكل تلك السنوات و ما حملته من خراب ، هو الخراب الذى حدث بالإنسان و كيف قاومه ، و لم أعنى الخراب المادى كالأماكن ، فالإنسان هو ما تدور حوله كتاباتى، أما المكان فهو عامل خارجى كالملابس تحتوينا و تعطى صورة عنا ، و لكنها ليست نحن .
ماذا قصدت بـعنوان الرواية؟
أقصد بالحدائق ” المقابر الجماعية ” أو ما خلفته يداه، وهى نوع من السخرية المرة، فالبطل الرئيسى يدفن جثث ضحاياه فى حدائق يمضى وقته فيها و يزهو بنصره !.
” حدائق الرئيس ” محاولة لفهم عراق اليوم من خلال معرفة ما حدث فى عراق الأمس ، وأسبابه و جذوره ، و ماذا جرى للإنسان ، دائما ما تخرج علينا الفضائيات لتذيع مقتل 100 عراقى أو ألف عراقى ، يتعاملون معهم على أنهم أرقام ، لكن هؤلاء بشر لهم عائلة و تاريخ و أحلام، بينما ضحايا مركز التجارة العالمى فى أمريكا تم بث قصصهم و قصص جيرانهم ، تعاملوا معهم على أنهم بشر لا مجرد رقم، و يحزننى هذه العنصرية حتى تجاه الضحايا و تصنيفهم ، رغم أنهم متساوون فى الموت و فى كونهم ضحية .
هل تغير المواطن العراقي بفعل أجواء العنف؟
لقد مر العراقيون بالكثير ، لو كتبنا مليون سنة لن نفى ما حدث ، لأن كل عراقى له قصص لا تنتهى يوميا ، ، تستيقظ على انفجارات لها علاقة بجهة سياسية أو بتدخل آخر ، فتختلف الساحة السياسية ، و الناس تختلف ، فالعراق يتغير يوميا دون أن يعطى لنا متنفسا حتى للكتابة عما حدث .
و مع ذلك لا أفقد ثقتى فى قدرة الشعوب على النهوض ، لأن العراق تعرض لحروب و ابتلاءات كثيرة ، و لا أحد يستطيع أن يمحو شعبا كاملا ، نعانى كثيرا و لكن يبقى هناك أمل بانتصار الحياة .
فى روايتك ” تمر الأصابع ” عرضت لثلاث أجيال عايشوا الاستبداد وأزمة الهوية ، حدثنا عنها ؟
هذه الرواية هى تجربتى الذاتية بين ثقافتين ، بين ديكتاتورية و حرية ، بين تقاليد و دين ، تلك الثنائيات التى عايشتها عندما انتقلت لأسبانيا واصطدامى بالثقافة الجديدة ، فلم أكتبها كرواية و لكن فى دفتر يومياتى .
كتبتها لأعرف ماذا يحدث فى داخلى و ما أعانيه من تناقضات ، و كنت أجد نفسى أكتب بالعربية و الإسبانية فى ذات الوقت ، و بعد انتهائى من المسودة صدرت الأول بالإسبانية ثم بالعربية .
” تمر الأصابع ” تجمع بين عالمين ، الغرب أعجب بالعالم الذى يتحدث عن العراق والشرق ،و الجانب العربى انجذب لعالم الغرب ، فسعدت أنى استطعت أن أجذب العالمين لبعضهما .
هل لا تزال تشعر بالاغتراب ؟
لم أعد أشعر بالاغتراب أو المنفى ، فوفقا للمفهوم البابلى :” المنفى منفى زمانى لا مكانى ” ، كنت فى البداية أعانى منها كثنائية ككثير من المهاجرين ، و الآن أنا متكيف مع هويتى التى تجمع بين بلدين و ثقافتين.
فلماذا يجب أن أكون شرقى أو غربى و أعانى ، فلقد توصلت بداخلى لحالة تصالح، و تخلصت من تلك الثنائية فأنا عراقى و أسبانى فى نفس الوقت ، توحدت إنسانيا ، فما الثقافة و الهوية إلا نتاج إنسانى ، فهذه مسألة ذهنية ، و الأجيال الجديدة لم يعد يقلقها مسألة الهوية مع التكنولوجيا و العوالم المفتوحة التى جعلتهم أبناء يومهم أكثر من أبناء تراثهم .
وماذا عن عبارتك .. اكتب ما تشاء فلن يحدث أسوء مما حدث ؟
نعم ، لأن نظرتى بالأصل تشاؤمية تجاه العالم ، و عندما تكون فاقد الأمل فى كل شئ ، يصبح أى شئ يبث لك الأمل .
كيف ترى حال العراق حاليا مع الوجود الداعشى ؟
مسألة العراق معقدة جدا ، و قطعا لها أسبابها الواقعية و السياسية و الجغرافية و التاريخية ، و أنا ضد أى أيديولوجيا تعتمد على الموت فى فرض أفكارها و مع كل من يدعو للانتصار للحياة ، أهلى فى العراق مشردون و مقتولون وبعضهم يعانى تحت حكم داعش ، لا استطيع أن أفكر فى حل للوضع ، فحالى أصبح كالعراق فى ” حالة طوارئ ” ، و أحاول مساعدة العراقيين النازحين بقدر ما استطعت .
و الكاتب يجب أن يترك مسافة بينه وبين الحدث، يترك الكاتب مسافة بينه و بين الحدث ليتأمله و يستطيع أن يعبر عنه بعيدا عن التشويش و الغموض و الضبابية التى تسود الوضع الحالى، فهى تشكل رؤية كاملة عن الحدث ، لهذا عندنا روايات قليلة بالعراق ، بينما العراق معروفة بالشعر لأنه يولد فى حماسة الحدث و اللحظة ، و العراق هى البلد الأول فى إنتاج الشعر كميا و نوعيا بحسب معرفتى ، فأنا أمكث فى أسبانيا بلد الشعر فى أوروبا ،و لكن تظل العراق الأكثر إنتاجا له .
ما دور المثقف فى اللحظات الصعبة من عمر الوطن ؟
المثقف مسكين ، و أنا ضد من يرددون أن المثقفين ليس لهم دور بالثورة ، بل بالعكس فالمثقف يقوم بتضحية طويلة الأمد ، و التأثير الذى يصنعه ليس مباشرا ، و لكنهم على مر الزمان هم من يتصدون لموجات الديكتاتورية ، فعندما ضحى أخى بحياته و غيره من المثقفين ، فهل خرج الشعب إلى الشارع ؟!
لماذا الآن عندما خرجوا يتهمون المثقف بأنه لم يفعل شئ و يتساءلون أين المثقف ؟ ، و هم من عارضوا السلطات فى أصعب الظروف و ضحوا بحياتهم و سجنوا و اعتقلوا ، فلماذا لا يسأل المثقف أين كان الشعب ؟
المثقف دوما كان دوره تنويريا ، و الشعوب التى تنتصر هى الشعوب التى تحترم مثقفيها ، أما الشعوب التى تزدرى المثقفين فلا يقوم لها قائمة ، و لهذا نحن نقول هذا بلد ” نيرودا ” ، هذا بلد ” ثربنتس ” ، هذا بلد ” نجيب محفوظ ” ، و لا نقول هذا بلد الإمبراطور أو الجنرال ، فكفى ظلما للمثقف و المبدع .
كيف ترى حال الأدب العربى بشكل عام ، و العراقى بشكل خاص ؟
لدينا إنتاج كمى مزدهر ، و لكننا نحتاج لحركة فكرية نقدية تغربل للقارئ العربى هذا الإنتاج الهائل .
حدثنا عن تجربتك فى أسبانيا ؟ و مدى إطلاعهم على الأدب العربى ؟
هناك من يدرس اللغة العربية يجد عملا بسهولة فى المخابرات ،الشركات ، السياحة ، الشرطة و أى شئ ، و هذا أمر إيجابى للغة العربية ، و فى أمريكا اللاتينية يشكون من عدم قدرتهم على الإطلاع على الأدب العربى الجديد ، و لكن هناك تقصير من كلا الجانبين فى الترجمة عن الآخر ، رغم الشبه الكبير بيننا ، فلقد مرت أمريكا اللاتينية بثورات و انقلابات عسكرية ، حتى وصلوا لبداية الاستقرار الديمقراطى .
و نحن كعرب مقصرون فيما يخص أمريكا اللاتينية ، فنحن نتبع الفرنسى و الانجليزي و نترجم لهم رغم أن بيننا و بينهم دم ، خلفته سنين الاستعمار المريرة ، أما أمريكا اللاتينية الذى صنفنا العالم مثلهم ” عالم ثالث ” ، و ليس بيننا و بينهم دم فنحن لا نحاول التعاون معهم ؟ ، رغم أن بمعايشتى لهم وجدتهم يتضامنون مع قضايانا بشكل غير طبيعى فى فلسطين و سوريا و العراق ، و يكتبون قصائد عن العربى .
لو كان فى يدى سلطة لجعلت فى كل بلد عربى “وزارة للترجمة” ، فسبب تعاستنا هو انغلاقنا ، العالم يتغير ، و نحن ما نزال نقرأ ماركيز على أنه آخر صرعة فى أدب أمريكا اللاتينية ، بينما أعماله تعد هناك من الأعمال الكلاسيكية .
ماذا تكتب حاليا ؟
أكتب رواية عن ” الحب ” حتى الآن ، و لكن العراق ما يزال يلح ، و هو حاضر فى خلفية الرواية ، التى حاولت من خلالها النفاذ لأعماق المرأة العراقية و معرفة منظورها للحب فى وسط ما تعايشه من مآسٍ ، خلال الأربعين سنة الأخيرة ، الحب الذى أصبح بين الحصار و الحرب أشبه بـ ” العيب ” ، فى ظل الديكتاتورية و التقتيل و الحصار ، فماذا فعلت تلك المرأة ؟ ،
لذا حتى فى حديثى عن الحب .. العراق حاضر ، و لم أستطع حتى الآن أن أكتب عن تجربتى فى الأردن و بلدان أخرى و الثقافة الجديدة ، فالعراق لا يتركنى و إن أنا تركته .