كم عانيت يا مصر من جراء الاستبداد!
كلنا نعرف هذا التاريخ، ونعرف أن (مصــر) عانت كثيراً من جراء هذا الاستبداد الذى بلغ فى بعض الأحيان مبلغاً كريهاً، فكم سيق مصريون لحفر قناة السويس واغتيلت حقوقهم وراحوا ضحايا الظلم والغصب!! وكم سخرت قوى المصريين لزراعة أراضى الإقطاعيين!! وكم فرض عليهم تقديم ماشيتهم وأولادهم للعمل فى حقول الأمراء والسادة!!. وكم شرد كثير منهم إذا شكا أو أظهر الضيق والتبرم!!. وكم امتلأت السجون والمعتقلات بالمنادين بالتحرر والعدالة!!.
لقد قرأنا تاريخ الأمم الأخرى فلم نر شعباً استذل من حكامه كالشعب (المصــرى) إذ تآمر على حكمه الذى جلبوا من شتى الأقطار والنواحى. ومن المحير حقاً فى تاريخ هذا الشعب أن يحصل على جواب شاف لتعليل هذه الظاهرة، أهو سوء الطالع؟ أهى المؤامرات الكبرى التى تحاك حول اغتصاب هذا الشعب؟ أهى البيئة الزراعية البحتة التى توحى بالركود والاطمئنان؟ أهو انقسام بعضه على بعض؟ أهى الحقبة الطويلة التى عاش فيها مسلوب الإرادة؟ أهو وضعه الاستراتيجى؟ أهى الآراء الخبيثة التى لقنها من الأعداء حتى خدرت أعصابه، واستنام شعوره؟. أهى الضربات التى لحقت به فى تاريخه الطويل؟. لست أدرى ولكن الذى أدريه أنه عانى طويلاً، ولحقه أعتى ظلم نزل بشعب من الشعوب.
وحين يحل الاستبداد السياسى بشعب يشل وعيه، وتضطرب أهدافه، ويصبح بمعزل عن سياسة المستبد الغاصب. وغلب هذا الشعب على أمره من الحكام الدخلاء المستبدين الذى سخروه لأهوائهم ومطامعهم، واغتصبوا أرضه، وامتصوا دمـه، وكتموا أنفاسه، وأذاقوه العلقم والصاب، وأوهموه أن الطاعة فرض على الرعيـة، وألقوا فى روعه الخوف والفزع، وداسوا كرامته وانتهكوا حرمته والويل لمن لا يخضع أو يثور، فالسياط تلهب جسده، وعبيد السلطان يهددونه فى رزقه حتى يرضخ أو ينفى من الأرض. فى ظل هذه الأحكام الرهيبة القاسية كيف يرتفع صوت؟ وكيف يكون وعى؟ وكيف ينال (المصـرى) حقه؟ وكيف يدافع عن مصالحه؟
إن السياسة المصرية فى العصور المتطاولة إنما كانت سياسة الحاكم الفرد لا سياسة الشعب. سياسة الحاكم البعيد عن جو المحكومين، الذى لا يتعرف طبائعهم أو يتفهم أهدافهم أو يحس بآمالهم وآلامهم. ولعل هذا العائق كان أخطر عائق فى سبيل تطور الوعى فـى (مصــر) وتقدمه. وقد هدف هذا الحاكم المستبد إلى كبت الحرية السياسية وفض الاجتماعات وتفريق المظاهرات بالعنف والقوة، ونفى الأحرار والقبض على الثوار. وحارب حرباً عنيفة لا هوادة فيها وجود حياة نيابية فى (مصــر) لأننا لسنا أهلاً فى نظره لهذه الحياة. وكان بحكم سيطرته وتوليته الوزراء، والموالين له من المفسدين، وما كان له من عيون وأرصاد، وما اصطنعه من حذق ومهارة فى اصطفاء أعوان له يتألفهم بالجاه حيناً والمال حيناً آخر، وما أقدم عليه من تعيين المفسدين فى كثير من إدارات الحكومة الحيوية، كان بحكم هذا كله يضع يده على المعادين له من شعب (مصــــر) فيمثل بهم، ويحاربهم فى أرزاقهم، ويلقى بهم فى السجون والمعتقلات حتى يرضخوا ويستكينوا. فهل يمكن وسط هذه العواصف والأنواء أن ينمو الوعى السياسى، وأن يأخذ طريقه إلى التحرر والانبثاق؟
وقد ظلت أمريكا تتدخل تدخلاً مريباً فى السياسة المصرية حتى قيام ثورة (25 يناير) بالإشارة حيناً والتهديد حيناً، وليست الأحداث المتوالية ببعيد عن أذهاننا. وهذا التدخل غير مستغرب من أمريكا، ومن رجعية يهمها أن يظل الوضع قائماً حتى تحتمى فيه، ومن ملكية تخشى نفوذ المصريين، فتلجأ إلى رعاية دار الحماية أو السفارة ذات القوة والسلطان. وكان من البصر بالأمور أن تتقدم هذه الثورة وأن ينفجر بركانها فى نفس الوقت.