«القرم» قديما وحديثا.. حلم «الامبراطوية» يداعب روسيا
في مثل هذا اليوم من عام 1856 انتهت حرب القرم بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية والتي ساندت فيها فرنسا وإنجلترا العثمانيين، واستمرت هذه الحرب طيلة سنتين ونصف.
بدأت الحرب في الرابع من أكتوبر عام 1853، وكانت مصر وتونس وبريطانيا وفرنسا بجانب الدولة العثمانية في 1854م، وكان من أهم أسباب اندلاعها الأطماع الإقليمية لروسيا على حساب الدولة العثمانية، وخاصة في شبه جزيرة القرم التي كانت مسرحا للمعارك والمواجهات، وانتهت بتوقيع اتفاقية باريس وهزيمة الروس.
العلاقات بين البلدين
كانت العلاقات بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية تسودها العداء والدموية، وكان حلم الروس أن يصبح وطنهم دولة كبرى على مسرح السياسة الأوربية والدولية، واختلطت هذه الأطماع في بعض الأحيان بعواطف دينية متعصبة، متمثلة في حماية الأرثوذكس في العالم، والسيطرة على القسطنطينية التي فتحها السلطان محمد الفاتح، وكذلك السيطرة على الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين.
وفي سبيل تحقيق تلك التوسعات كان على الروس القضاء على الدولة العثمانية، خاصة في منطقتي آسيا الوسطى والبلقان، والسعي إلى تقسيم الأملاك العثمانية بين الدول الكبرى، تمهيدا لوصول روسيا إلى المياه الدافئة، وهو الحلم الذي ظل يراود الروس فترة طويلة من الزمن.
ورأت فرنسا وبريطانيا في هذه الحروب الطويلة والعنيفة بين الجانبين تحقيقا لمصالحهما، من حيث إضعاف روسيا وردعها عن التدخل الفاعل والنشط في السياسة الأوروبية، وإبعادها عن المنافسة في المجال الاستعماري، وكذلك إضعاف الدولة العثمانية التي تتمدد أملاكها في 3 قارات تمهيدا لتقسيمها بطريقة لا تؤثر على التوازن في السياسة الدولية.
حرب القرم
بدأت الحرب العثمانية الروسية في 4 شوال 1269هـ 3 يوليو 1853م)، وكان مسرحها الأول في أوروبا بمنطقة البلقان، وقام حوالي 35 ألف جندي روسي باحتلال رومانيا التي كانت تابعة آنذاك للدولة العثمانية، وأبلغت روسيا الدول الأوروبية أنها لن تدخل في حرب شاملة ضد الدولة العثمانية، وأن ما فعلته إجراء وقائي لحين اعتراف السلطان العثماني بحقوق الأرثوذكس في كنيسة القيامة في القدس، وأنها سوف تنسحب فور هذا الاعتراف.
وقامت الدولة العثمانية وروسيا بحشد قوات ضخمة على جبهات القتال، وعلى جبهتي الدانوب والقوقاز، واستطاع القائد العثماني عمر باشا أن يلحق هزيمة كبيرة بالروس على نهر الدانوب، وأن يدخل رومانيا، وفي جبهة القوقاز ساند الزعيم الشيشاني الإمام شامل القوات العثمانية أثناء القتال ضد الروس.
أرادت الدولة العثمانية دفع بريطانيا وفرنسا إلى دخول الحرب إلى جوارها، ودبرت إرسال مجموعة من قطع الأسطول البحري العثماني القديمة إلى ميناء سينوب على البحر الأسود، وهي تدرك أن هذه السفن لابد أن يهاجمهما الروس، وبالفعل هاجم الروس هذه السفن وتم إغراقها جميعا، واستشهد حوالي ألفي جندي عثماني، وأثارت هذه المعركة قلقا في الأوساط في لندن وباريس، وحذرت الصحافة في العاصمتين من الخطر الروسي.
وعرض الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث الوساطة لإنهاء القتال بين العثمانيين وروسيا، إلا أن القيصر الروسي رفض ذلك، خاصة بعد انتصارات عمر باشا في رومانيا.
وغادر سفيرا لندن وباريس مدينة سانت بطرسبرغ الروسية في 8 جمادى الأولى 1270 هـ 6 فبراير 1854 م، وتم عقد معاهدة إستانبول في 13 جمادى الآخرة 1270 هـ 12 مارس 1854 م، بين الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا، ونصت على ألا تعقد أي دولة من هذه الدول صلحا منفردا مع روسيا، وأن يتفاهم قواد الدول الثلاث في الحرب ضد روسيا، وأن تكون الوحدات الإنجليزية والفرنسية والسفن التابعة لهما في إستانبول خاضعة للقوانين العثمانية.
فرنسا وبريطانيا ضد روسيا
وأعلنت فرنسا وبريطانيا الحرب على روسيا في 28 جمادى الآخرة 1270 هـ 27 مارس 1854 م، ونشبت معارك ضخمة في عدة جبهات أثناء حرب القرم، إلا أن أهم هذه المعارك كانت معركة سيفاستوبول التي خاضتها الدول الثلاث للقضاء على القوة البحرية الروسية في البحر الأسود.
وكانت القاعدة البحرية لروسيا في شبه جزيرة القرم “حاليا في أوكرانيا” واستمرت المعركة قرابة العام، قُتل خلالها حوالي 35 ألف قتيل، وعدد من القادة الكبار من كلا الجانبين، حتى انتهى الأمر بسيطرة الدول الثلاث على الميناء في 22 من شعبان 1271هـ 9 مايو 1855م.
واستمرت الحرب أكثر من عامين ونصف، حاربت فيها الدولة العثمانية منفردة في السنة الأولى منها، وتميزت هذه الحرب بمتابعة الصحافة لها، من خلال إرسال مراسلين عسكريين على جبهات القتال.
معاهدة باريس 1856
بعد توقف حرب القرم نشر السلطان العثماني عبد المجيد في 12 من جمادى الآخرة 1272 هـ 18 فبراير 1856 م، فرمانا عُرف باسم المرسوم الهمايوني للإصلاحات، والذي اعترف بمجموعة من الحقوق للأقليات الدينية في الدولة العثمانية، وكان هدفه الحقيقي محاولة الدولة العثمانية كسب الرأي العام الأوروبي إلى جانبها أثناء المفاوضات لتوقيع معاهدة باريس.
واعترف الفرمان بالمساواة بين جميع رعايا الدولة العثمانية من مسلمين ومسيحيين، وجرّم استخدام تعبيرات تحقر المسيحيين، ونصّ على تجنيد المسيحيين في الجيش العثماني، وإلغاء الجزية، على أن يدفع المسيحيون غير الراغبين في الخدمة العسكرية بدلا نقديا، وأن يمثل المسيحيون في الولايات والأقضية تبعا لأعدادهم في تلك المناطق. وافتتح مؤتمر باريس في 19 جمادى الآخرة 1272 هـ 25 فبراير 1856 وتم توقيع معاهدة باريس بعد 34 يوما من افتتاح المؤتمر في 23 رجب 1272هـ 30 مارس 1856م، وتضمنت عدة نقاط مهمة، منها: حرية الملاحة في نهر الدانوب، وتشكيل لجنة دولية للإشراف على ذلك، وإعلان حياد البحر الأسود.
وأجبر ذلك روسيا على سحب سفنها الحربية من البحر ونقلها إلى بحر البلطيق، وبالتالي أصبح البحر الأسود بحيرة عثمانية من الناحية الفعلية وليس القانونية. واعترفت المعاهدة بالاستقلال الذاتي لكل من ولايتي الأفلاق والبغدان “رومانيا حالياً” ضمن الدولة العثمانية، وأن يتم احترام استقلال الدولة العثمانية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية مقابل تعهدها بتحسين أحوال الرعايا المسيحيين في البلقان.
واعترف السلطان العثماني بالمساواة التامة بين جميع رعاياه على اختلاف مذاهبهم وأديانهم. وأعلنت الدولة العثمانية قبول مبدأ التحكيم في حالة وقوع خلاف بينها وبين غيرها من الدول، وكان هذا النص مهما في القانون الدولي الناشئ.
وقررت المعاهدة إعادة ميناء سيواستوبول لروسيا، كما احتفظ العثمانيون بحق حماية الأراضي الصربية، ووعدت الدول الكبرى بالعمل على حل أي خلاف ينشأ بين الصرب والعثمانيين.
وثبتت معاهدة باريس امتيازات فرنسا في الأماكن المقدسة المسيحية دون غيرها من الدول، وأضفت عليها الطابع الحقوقي الدولي، حيث إن الامتيازات في السابق كانت نابعة من التعاقد الثنائي بين الدولة العثمانية ذات السيادة على هذه الأماكن وبين فرنسا منفردة.
كان لهذه المعاهدة آثارها على الدولة العثمانية، حيث وقعت بعض المصادمات الطائفية في بعض المناطق في الدولة كما أن هذه المعاهدة عطلت الوجود الروسي في البحر الأسود قرابة 15 عاما، حتى تمكن القيصر ألكسندر الثاني من إنهاء معاهدة باريس سنة 1287هـ 1870 م، أثناء الحرب الروسية – الفرنسية.
روسيا تضم القرم
وفي مارس الماضي وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال احتفال في الكرملين أمس اتفاقا بضم القرم إلى روسيا، وأكد أن هذا الإقليم “جزء لا يتجزأ من روسيا” في الوقت الذي بدأت فيه الدول الغربية الغاضبة من هذه الخطوة اتخاذ إجراءات عقابية تهدد بعزل روسيا دوليا.
وقد وقع بوتين الاتفاق التاريخي بعد خطاب ألقاه أمام مجلس البرلمان وحكام المناطق وأعضاء الحكومة الروسية غلبت عليه النزعة الوطنية وتضمن انتقادات شديدة للغرب. وبعد الاحتفال بضم القرم، أعلن الكرملين أن “جمهورية القرم باتت تابعة للاتحاد الروسي، مما أعاد للأذهان أجواء الحرب الباردة.
وقال بوتين إن القرم كانت وستبقى “جزءا لا يتجزأ من روسيا”، مؤكدا أن موسكو لا تريد تفكيك أوكرانيا، واعتبر بوتين أن الغرب “تجاوز الخط الأحمر” و”تصرف بشكل غير مسئول” في الأزمة الأوكرانية.
إدانة غربية
وأدانت الدول الغربية الكبرى قرار بوتين بضم القرم، وشددت على عدم اعترافها بهذا الوضع، فقد دعا الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى عقد اجتماع عاجل لقادة مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي في لاهاى لمناقشة الرد على الخطوة الروسية في أوكرانيا.
وأعلن وزير الخارجية البريطاني ويليام هيج وقتها وقف صادرات السلاح البريطاني إلى روسيا وإلغاء التعاون العسكري، حتى إشعار آخر،ى كما حث الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند على الرد بقوة ضد موسكو.