العصافير
أيامه قيثارة ذات وتر واحد، تشرق شموسها ثم تغرب دون أن تضىء بداخله حيزا جديدا .. فالأحداث ثوابت والمعطيات واحدة، وكلما لامست أرجوانية الشمس تحدب الأفق المهاجر، لملم أدواته الثقيلة وحملها ظهره العنيد الصلابة لينهى يوما أو فصلا من فصول ملحمة سرمدية بين الإنسان والأرض والسواقى …فالزمان ملكى والمكان أخضر.
وإذا ما لاحت نذر الظلام فى عينى السماء، مضى إلى داره تستحثه نداءات الطبيعة إلى طعام يملأ به جوفه .. ثم إلى إمرأة بتر الجهل لذتها الصغيرة ، وأفقدتها رتابة العادة حرارة اللقاء.
لكنك اليوم تكاد تشم فى زفراته رائحة النشوة المنتصرة فلقد ثبت الكثير من الدعائم بالأمس .. ثم ألقى عليها اليوم بالأقمشة المهترءة .. و فى الغد سوف يرى النتائج المفرحة.
وقبل أن يغيب فى انتشاءاته ، فاجأه الصهيل ودبيب الحوافر ورنين الأجراس … كان على مقربة من الدار .. وقبل أن تختمر فى ذهنه فكرة الإسراع ، ركعت كل أبعاضه وركع .نهره خفوت صوت الصهيل .. وأقنعه السكون بأن يهتك بكارة انفعاله وينهض … أغمض عينيه قليلا .. رأى قلبه يشد ثانية إلى صدره فهدأ … تمثلت أمامه أحذيتهم العريضة وهى تسحق كل آبق لا يذبح كرامته وكبرياءه قرابين تقطر أنهارا من دم يباعد بينه وبين سخطهم.
وصل إلى الدار ولم تزل بقايا من هلع تجفف حلقه ، فشرب كثيرا ثم طعم ، ترجل إلى الضريح وما أن وصل حتى استقبلته تلك السكينة الخفية لتعيد الترتيب إلى نفسه المبعثرة، وبدأ فى مناجاته اليومية لصاحب الضريح يطلب منه ما يعن له من حوائج ويسأله البركات فى الأهل والولد.
أصبح سعيدا منتشيا يسير على وعد من الصباح بالمجئ، يحمل أدواته الثقيلة ، تدفع خطواته لذة الانتصار. ها هو خيال المآته الذى أتم صنعه بالأمس .. وها هى العصافير الخائفة تموت جوعى بعيدا عن الحقل.