معصوم مرزوق الديكتاتور العادل !!
إن الرومان لم يكونوا يمقتون كلمة قدر مقتهم لكلمة ” الملك “، كانوا فى الأوقات الصعبة وحين تتهددهم المخاطر، يعينون مواطناً يثقون فيه من بينهم، ويطلقون عليه اسم ” ديكتاتور”، وبهذا المعنى فإن عبد الناصر كان ديكتاتوراً، وليس بالمعنى الذى أراد الغرب أن يلصقه به، فهو لم يكتسب ثقة شعبه فقط، وإنما – وتلك حقيقة تاريخية لا مراء فيها – اكتسب ثقة الشعوب العربية فى العالم العربى كله، فإنه لم يعرف عن أى ديكتاتور( بالمفهوم الذى يلصقه الغرب بناصر)، أنه يجرؤ على الركوب فى سيارة مكشوفة يمر بها بين جموع حاشدة، مثلما فعل ناصر وبعد أن كانت الحكومة قد وزعت مئات الآلاف من الأسلحة على أفراد الشعب لمقاومة العدوان الثلاثى.
وقد علق عبد الناصر على ذلك لصحفى غربى قائلاً : ” إنهم يقولون عنى إننى ديكتاتور فى أمريكا لأننى لا أتلقى أوامر منهم، هناك أكثر من ديكتاتور يطيع وزارة الخارجية الأمريكية، ولا يطلق عليهم أحد أى أسماء، وإذا أطعت أوامرهم فربما أطلق على الأمريكيون اسم الديمقراطى الطيب “. عندما زار خروشوف وبولجانين بريطانيا فى أبريل 1955، فإن عبد الناصر تخوف من وجود صفقة بينهما، فسارع بالاعتراف بالصين الشعبية فى يوليو، خاصة ما صرح به أنتونى إيدن آنذاك من أنه تم التوصل إلى اتفاق ودى مع ضيوفه حول الشرق الأوسط، وقد كان تفكير عبد الناصر يقوم على أنه من خلال صداقته مع الصين يمكنه أن يحقق التوازن إذا كانت هناك أية صفقة إنجليزية / سوفيتية على حساب العرب.
نشرت الإيكونومست فى عددها الصادر فى 18 مايو 1957 : ” إن النجاحات المؤقتة التى يتم إحرازها فى الشرق الأوسط تستند على دوائر حكم ضئيلة، سلطاتها ليست مستقرة بالضرورة، ومهما كانت تلك النجاحات مريحة، فإن قيمتها السياسية زائلة، وفى النهاية لن يستطيع الغرب أن يتصل بالجسد الرئيسى للقومية العربية إلا من خلال مصر، وسواء شاء العالم ذلك أم لم يشأ، فإنها حقيقة قائمة فى الحياة السياسية فى الشرق الأوسط ” ويضيف المقال ” إن نتيجة محاولاتنا لعزل ناصر وتدميره بواسطة الضغط الاقتصادى سوف تكون محاولات فاشلة، مثل محاولات فرنسا وبريطانيا الاستعمارية القديمة فى ” دبلوماسية البوارج الحربية ” Gunboat Diplomacy، ” وأن هناك أسباباً للتوقف عن السعى لنهاية نظام ناصر.. فالذين يعرفون مصر لا يرون أى خليفة منطقى للنظام فيها إلا الفوضى، والنتيجة شبه المؤكدة هى انتصار الجناح اليسارى المضاد للأجانب، أو مثيل له – أيضاً مضاد للغرب – على شكل الإخوان المسلمين، وربما تحالف بين الاتجاهين.. لذلك فإن علاقة عملية مع قومية الشرق الأوسط تستحيل إلا إذا تمت بشروط مصر “..
وفى عدد ” نيويورك تايمز ” الصادر فى نفس اليوم، كتبت دانا آدامز شميدت : ” إن عبد الناصر لا يزال رمزاً شعبياً فى العالم العربى كله، فهو يمثل القومية المعادية للغرب، مع ترفعه عن المصلحة الشخصية وعدائه للفساد، ولا يستطيع أن ينافسه فى ذلك الملوك الثلاثة : حسين الأردن، أو فيصل العراق، أو سعود السعودية، فهم ليسوا فى مستواه. لذلك فإن أرباح الغرب تبدو تافهة إذا قيست إلى شعبية ناصر، وفى الأردن على وجه الخصوص، ومشاعر المشايعين لناصر من اللاجئين الفلسطينيين لا يمكن إخفاؤها إلا بقوة السلاح … إن رجل الشارع المصرى يرى عبد الناصر بطله فى الكفاح ضد الفقر والامتيازات والظلم والفساد الحكومى، وضد كل عوائق التنمية إلى الأفضل.
ورغم أن الإصلاح الزراعى الذى قدمه ناصر، لم يتقدم بشكل كبير حتى الآن، إلا أنه بلا مثيل فى أى مكان آخر فى الشرق الأوسط، وأعطى مصر أول حكومة نظيفة عرفتها على مدى قرون. ولعل أسلوب حياته المتواضع، وخصوصياته التى لم تقترب منها الفضائح، وعدم قابليته للفساد، وإخلاصه وشجاعته، فضلاً عن سلوكه الشخصى الديمقراطى، كل ذلك هو ما أدى إلى اتساع شعبيته، وبث الثقة”.